إذا كان تاريخ الفلسفة قد اتّسم بالفيض الهائل من الآراء الانتقاليّة وانحدر من الانهمام بالمطلق إلى مختبرات الحياة العامّة ، وسار تاريخ القيمة في خطّ مواز لمسيرة الحياة لمّا تعرّج من طلب المعنى إلى التنعّم بالعلامات، فإنّ الفنومينولوجيا الهوسرليّة شقّت طريقها الثالث بين المطلق ومسيرة الحياة لاختراق ما لا يُحدّ من العقلانيّات، مطالبة إيّاها بحصّة من هذا الناتج الإبداعي الذي لا يمكن الانتهاء من مفهمته.

في هذه المطالب المبهمة بين المقاصد والإبداع المتميّز، ينسج هوسرل مدارات انتظاراته الفجئيّة غير المأهولة مسبقا بأوقات الأخرين وتوقّعاتهم، ليُلخّص تاريخ الانقلاب البطيء ولكنّه الأعمق والأخطر، بين أن يتعامل الفكر مع أفكاره بطريقة نسقيّة وبين أن تنقلب الأفكار نفسها إلى منهج.

ما يعني أنّ التفلسف الحقّ، ليس مُسلّمة تلقائيّة ولا يأتي تطبيقا ﺁليّا لوصايا السقراطيّة وإن كانت تتّدعي تسجيلا تاريخيّا في ذلك، وإنّما لا بدّ له أن يبرز من ثنايا الهضاب بفرادة مفاهيميّة ويحوم في” الوضع الحرّ والبرّي وفي ما وراء محمولاتها …انطلاقا من أفق متحرّك ومن مركز منزاح عن مركزه” كما يدعو لذلك دولوز، حتّى يتاح للعقل التمثّل ولا يتورّط في صناعة الباراديغمات من جديد.

هنا يصير الانقلاب الحقّ ويطلب ردم الهوّة القائمة بين الحيّز المفهومي والحيّز المعرفي، فينفتح بالفلسفة على مشهديّات مختلفة في وقت انخساف العقل بعد أن فقد كلّ رموزه الأساسيّة.